فصل: تفسير الآيات (20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (20- 21):

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهرَةً وَبَاطنَةً وَمنَ النَّاس مَنْ يُجَادلُ في اللَّه بغَيْر علْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كتَابٍ مُنيرٍ (20) وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إلَى عَذَاب السَّعير (21)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئًا واحدًا يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفًا من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكرًا بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذرًا من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر، فقال: {ألم تروا} اي تعلموا علمًا هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث، المتكبرون علي المقبلين على الله، المتخلين عن الدنيا، الذين قلنا لهم ردًا عن الشرك وإبعادًا عن الهوى والإفك {هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه} {أن الله} أي الحائز لكل كمال {سخر لكم} أي خاصة {ما في السماوات} بالإنارة والإظلام، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام، وأكده بإعادة الموصول والجار، لأن المقام حقيق به فقال: {وما في الأرض} بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه، ما لأحد ممن دونه فيه شيء، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلمًا، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن {وأسبغ} أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل {عليكم} أيها المكلفون {نعمه} أي واحدة تليق بالدنيا- في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم، مشيرًا إلى أنها ذات أنواع كثيرة جدًا، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميرًا له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعًا {ظاهرة} وهي ما تشاهدونها متذكرين لها {وباطنة} وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها، أو تحسونها وهي خفية عنكم، لا تذكرونها إلا بالتذكير، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين، حذرًا من سلب نعمه، وإيجاب نقمه، ويجوز أن تكون الآية دليلًا على قوله تعالى: {خلق السماوات بغير عمد ترونها}.
ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهرًا موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: {ومن الناس} أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالًا من {ألم تروا} ويكون {ألم تروا} دليلًا على أول السورة، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو، ألم تروا دليلًا على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس {من يجادل} فلا لهو أعظم من جداله، ولا كبر مثل كبره، ولا ضلال مثل ضلاله، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى: {في الله} المحيط بكل شيء علمًا وقدرة.
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهمًا، قال: {بغير} أي بكلام متصف بأنه غير {علم} أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حمارًا تابعًا للهوى.
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبرًا بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولًا لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفًا بالعلم: {ولا هدى} أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها.
ولما كان القول قد يكون مقبولًا لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلًا معقولًا، قال: {ولا كتاب} أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: {منير} أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعًا أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.
ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعًا هواه مقلدًا مثله قطعًا، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجبًا، عجب منهم تعجيبًا آخر بإقامتهم على الضلال مع إيضاح الادلة فقال: {وإذا قيل} أي من أيّ قائل كان.
ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيبًا من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى، أفرد أولًا وجمع هنا فقال: {لهم} أي للمجادلين هذا الجدال: {اتبعوا ما} أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي، وأظهر لزيادة التشنيع أيضًا فقال: {أنزل الله} الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، وهو الذي لا عظيم إلا هو {قالوا} جمودًا: لا نفعل {بل نتبع} وإن جاهدنا بالأنفس والأموال {ما وجدنا عليه آباءنا} لأنهم أثبت منا عقولًا، وأقوم قيلًا، وأهدى سبيلًا.
ولما كانوا لا يسلكون طريقًا حسيًا بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: {أو لو كان الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليللهم فهو {يدعوهم} إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك {إلى عذاب السعير} وعبر بالمضارع تصويرًا لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه. اهـ.

.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{نعمه} على الجمع: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص {والبحر} بالنصب: أبو عمرو ويعقوب عطفًا على اسم أن الآخرون: بالرفع حملًا على محل أن ومعمولها {وأن ما يدعون} على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب {وينزل الغيث} التشديد: ابو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم.

.الوقوف:

{وباطنه} ط {منير} o {آباءنا} ط {السعير} o {الوثقى} ط {الأمور} o {كفره} o {عملوا} ط {الصدور} o {غليظ} o {ليقولن الله} ط {الله} ط {لا يعلمون} o {والأرض} ط {الحميد} o {كلمات الله} ط {حكيم} o {واحدة} ط {بصير} o {والقمر} ز لأن قوله: {كل} مبتدأ مع عطف أن على أن الأولى {خبير} o {الباطل} لا {الكبير} o {من آياته} ط {شكور} o {الدين} ج {مقتصد} ط {كفور} o {عن ولده} لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظًا مع صدق الاتصال معنى {شيئًا} ط {الدنيا} قف للفصل بين الموعظتين {الغرور} o {الساعة} ج لاختلاف الجملتين {الغيث} ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب {الأرحام} ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام {غدًا} ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها {تموت} ط {خبير} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض}.
لما استدل بقوله تعالى: {خُلقَ السموات بغَيْر عَمَدٍ} على الوحدانية، وبين بحكاية لقمان أن معرفة ذلك غير مختصة بالنبوة بل ذلك موافق للحكمة، وما جاء به النبي عليه السلام من التوحيد والصلاة ومكارم الأخلاق كلها حكمة بالغة، ولو كان تعبدًا محضًا للزم قبوله، فضلًا عن أنه على وفق الحكمة، استدل على الوحدانية بالنعمة لأنا بينا مرارًا أن الملك يخدم لعظمته، وإن لم ينعم ويخدم لنعمته أيضًا، فلما بين أنه المعبود لعظمته بخلقه السموات بلا عمد وإلقائه في الأرض الرواسي.
وذكر بعض النعم بقوله: {وَأَنزَلْنَا منَ السماء مَاء} [لقمان: 10] ذكر بعده عامة النعم فقال: {سَخَّرَ لَكُم مَّا في السموات} أي سخر لأجلكم ما في السموات، فإن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمر الله وفيها فوائد لعباده، وسخر ما في الأرض لأجل عباده، وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرة} وهي ما في الأعضاء من السلامة {وَبَاطنَةً} وهي ما في القوى فإن العضو ظاهر وفيه قوة باطنة، ألا ترى أن العين والأذن شحم وغضروف ظاهر، واللسان والأنف لحم وعظم ظاهر، وفي كل واحد معنى باطن من الأبصار والسمع والذوق والشم، وكذلك كل عضو، وقد تبطل القوة ويبقى العضو قائمًا، وهذا أحسن مما قيل فإن على هذا الوجه يكون الاستدلال بنعمة الآفاق وبنعمة الأنفس فقوله: {مَا في السموات وَمَا في الأرض} يكون إشارة إلى النعم الآفاقية، وقوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظاهرة وَبَاطنَةً} يكون إشارة إلى النعم الأنفسية، وفيهما أقوال كثيرة مذكورة في جميع كتب التفاسير، ولا يبعد أن يكون ما ذكرناه مقولًا منقولًا، وإن لم يكن فلا يخرج من أن يكون سائغًا معقولًا.
ثم قال تعالى: {وَمنَ الناس مَن يجادل في الله} يعني لما ثبت الوحدانية بالخلق والإنعام فمن الناس من يجادل في الله ويثبت غيره، إما إلهًا أو منعمًا {بغَيْر علْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنيرٍ} هذه أمور ثلاثة مرتبة العلم والهدى والكتاب، والعلم أعلى من الهدى والهدى من الكتاب، وبيانه هو أن العلم تدخل فيه الأشياء الواضحة اللائحة التي تعلم من غير هداية هاد، ثم الهدى يدخل فيه الذي يكون في كتاب والذي يكون من إلهام ووحي، فقال تعالى: {يجادل} ذلك المجادل لا من علم واضح، ولا من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب وكأن الأول إشارة إلى من أوتي من لدنه علمًا كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] والثاني: إشارة إلى مرتبة من هدى إلى صراط مستقيم بواسطة كما قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَديدُ القوى} [النجم: 5] والثالث: إشارة إلى مرتبة من اهتدى بواسطتين ولهذا قال تعالى: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فيه هُدًى لّلْمُتَّقينَ}.
[البقرة: 1، 2] وقال في هذه السورة: {هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسنينَ} [لقمان: 3] وقال في السجدة: (23) {وَلقد ءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنى إسرائيل} فالكتاب هدى لقوم النبي عليه السلام، والنبي هداه من الله تعالى من غير واسطة أو بواسطة الروح الأمين، فقال تعالى: يجادل من يجادل لا بعلم آتيناه من لدنا كشفًا، ولا بهدى أرسلناه إليه وحيًا، ولا بكتاب يتلى عليه وعظًا.
ثم فيه لطيفة أخرى وهو أنه تعالى قال في الكتاب: {وَلاَ كتاب مُّنيرٍ} لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال ولا كتاب لكان لقائل أن يقول لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث عن كتابهم، فقال: {وَلاَ كتاب مُّنيرٍ} فإن ذلك الكتاب مظلم، ولما لم يحتمل في المرتبة الأولى والثانية التحريف والتبديل لم يقل بغير علم ولا هدى منير أو حق أو غير ذلك.
قوله تعالى: {وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُوا بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه ءابَاءنَا}.
بين أن مجادلتهم مع كونها من غير علم فهي في غاية القبح فإن النبي عليه السلام يدعوهم إلى كلام الله، وهم يأخذون بكلام آبائهم، وبين كلام الله تعالى وكلام العلماء بون عظيم فكيف ما بين كلام الله وكلام الجهلاء ثم إن هاهنا شيئًا آخر وهو أنهم قالوا: {بَلْ نَتَّبعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْه ءابَاءنَا} يعني نترك القول النازل من الله ونتبع الفعل، والقول أدل من الفعل لأن الفعل يحتمل أن يكون جائزًا، ويحتمل أن يكون حرامًا، وهم تعاطوه، ويحتمل أن يكون واجبًا في اعتقادهم والقول بين الدلالة، فلو سمعنا قول قائل افعل ورأينا فعله يدل على خلاف قوله، لكان الواجب الأخذ بالقول، فكيف والقول من الله والفعل من الجهال، ثم قال تعالى: {أَوْ لَّوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَاب السعير} استفهامًا على سبيل التعجب في الإنكار يعني الشيطان يدعوهم إلى العذاب والله يدعو إلى الثواب، وهم مع هذا يتبعون الشيطان. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سخَّرَ لَكُمْ مَّا في السَّموَات وَمَا في الأَرْض}.
وفي تسخيره ذلك وجهان:
أحدهما: تسهيله.
الثاني: الانتفاع به.
{وَأَسْبَغَ عَلَيَكُمْ نعَمَهُ} قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بغير تنوين على الجمع والباقون بالتنوين يعني نعمة واحدة، وفي هذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنه عنى الإسلام فجعلها واحدة، قاله إبراهيم.
الثاني: أنه قصد التكثير بلفظ الواحد كقول العرب: كثر الدينار والدرهم، والأرض سيف وفرس، وهذا أبلغ في التكثير من لفظ الجمع، قاله ابن شجرة.
وفي قوله: {ظَاهرةً وَبَاطنَةً} خمسة أقاويل:
أحدها: أن الظاهرة الإسلام، والباطنة ما ستره الله من المعاصي قاله مقاتل.
الثاني: أن الظاهرة على اللسان، والباطنة في القلب، قاله مجاهد ووكيع.
الثالث: أن الظاهرة ما أعطاهم من الزي والثياب، والباطنة متاع المنازل، حكاه النقاش.
الخامس: الظاهرة الولد، والباطنة الجماع.
ويحتمل سادسًا: أن الظاهرة في نفسه، والباطنة في ذريته من بعده.
ويحتمل سابعًا: أن الظاهرة ما مضى، والباطنة ما يأتي.
ويحتمل ثامنًا: أن الظاهرة في الدنيا، والباطنة في الآخرة.
ويحتمل تاسعًا: أن الظاهرة في الأبدان، والباطنة في الأديان.
{وَمنَ النَّاس مَن يُجَادلُ في اللَّه بغَير عَلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كَتَابٍ مُنيرٍ} فيه قولان:
أحدهما: نزلت في يهودي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ فجاءت صاعقة فأخذته.
الثاني: أنها نزلت في النضر بن الحارث كان يقول: إن الملائكة بنات الله، قاله أبو مالك. اهـ.

.قال ابن عطية:

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَاوَات وَمَا في الْأَرْض}.
هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات إنما هو بمسخر ومالك، وقرأ يحيى بن عمارة وابن عباس {وأصبغ} بالصاد على بدلها من السين لأن حروف الاستعلاء تجتذب السين من سفلها إلى علوها فتردها صادًا، والجمهور قراءتهم بالسين، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن والأعرج وأبو جعفر وابن نصاح وغيرهم {نعمَه} جمع نعمة كسدرة وسدر بفتح الدال، والظاهرة هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك، والباطنة المعتقدات من الإيمان ونحوه والعقل.
قال ابن عباس الظاهر الإسلام وحسن الخلقة، والباطنة ما يستر من سيىء العمل، وفي الحديث قيل يا رسول الله قد عرفنا الظاهرة فما الباطنة؟ قال: ستر ما لو رآك الناس عليه لقتلوك.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومن الباطنة التنفس والهضم والتغذي وما لا يحصى كثرة، ومن الظاهرة عمل الجوارح بالطاعة. قال المحاسبي رحمه الله الظاهرة تعم الدنيا والباطنة تعم العقبى، وقرأ جمهور الناس {نعمة} على الإفراد، فقال مجاهد المراد لا إله إلا الله، وقال ابن عباس أراد الإسلام، والظاهر عندي أنه اسم جنس كقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34، النحل: 18]، ثم عارض بالكفرة منها على فساد حالهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {ومن الناس} وقال النقاش: الإشارة إلى النضر بن الحارث ونظرائه لأنهم كانوا ينكرون الله ويشركون الأصنام في الألوهية، فذلك جدالهم، و{بغير علم} أي لم يعلمهم من يقبل قوله ولا عندهم هدى قلب ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة ولا يتبعون بذلك كتابًا بأمر الله يقر بأنه وحي، بل ذلك دعوى منهم وتخرص، وإذا دعوا إلى اتباع وحي الله رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة فسلكوا طريق الآباء، ثم وقف الله تعالى وهم المراد بالتوفيق على اتباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير {إلى عذاب السعير} فكان القائل منهم يقول هم يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى السعير فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف كما كان اتساق الكلام فتأمله. اهـ.